الأربعاء, 06 كانون1/ديسمبر 2023

اتصل بنا

للإتصال بنا أو المساهمة في الموقع

 

  moutakaf.m@gmail.com

إقرأ معي

عدد زوار الموقع

عدد الزيارات
25792

ملتقيات علمية وطنية ودولية

قلم بلا رصاص ¦ النسبية المضيئة

السعيد بوطاجين، ناقد وروائي

 

   أثار انتباهي كتاب ''الكشّاف'' للزمخشري في طريقة تفسير القرآن الكريم. وإذا كان صاحبه أحد أقطاب اللغة والبلاغة العربية، فإنّ منهجه في الطرح والشرح يدعو إلى التفكير ملياّ في نمط التعامل مع المعجم والفكر، ثم إلى إعادة النظر الجذري في علاقاتنا مع أيّ المنجز، أي في مسألة منظورنا اليقيني تجاه الموضوعات والأشياء برمتها، بما في ذلك ما يبدو مجرد مسلّمات.

   أشبّه النشاط الذهني للزمخشري بجهد هنري بوانكاريه، أو بطريقة تفكير السيد ألبرت أينشتاين في مبدأ النسبية. وأجد الكتاب ذا أهمية كبيرة في معالجة قضايا أساسية في التأويل والتفسير، بصرف النظر عن كلّ القراءات الممكنة التي تدّعي ما تدّعيه.

   هناك مسألة مثيرة يؤسس عليها هذا الجدّ البعيد زمانيا، دون تحديدها، بيد أنّه يمكن استنباطها من خلال المتن وسياق القول وطرائق التقديم والتدليل: التنوع المرجعي المركب الذي بنى عليه في التعامل مع الحقول المعجمية المعقدة، ومع المعاني. وقد نستشف ذلك من خلال الإحالات الكثيرة التي يعتمدها في كلّ مقاربة، وفي أيّ تفسير، حتى في حالة بداهته الظاهرية، كما يبدو لنا من خلال التجليات اللفظية. ثمّ يختم كلامه بنوع من الإمحاء الكلي الذي يجعله تحت المعجم، وتحت حدود الجملة والدلالة: والله أعلم… كم هي رائعة هذه العبارة العارفة بالمشكلة اللسانية والبلاغية.

   إنّ الحدة التي تميز بعض جدلنا اليقيني ناتجة عن الأطر المغلقة للمنظومة المعرفية التي نقبع في دائرتها. أي عن المرجعية المعيارية التي تتحكم في الرؤية وتحدّ من عبقرية المخيال وتنوع أوجه الحقيقة الواحدة في أبعادها الممكنة، وفي انفتاحها على الفرضيات التي تنسف قناعاتنا، بداية من العنصر اللغوي الذي لا نتحكم فيه.

   المرجع والتموقع أساسيان في الحكم على الشيء لأنهما موجّهان، وقوتان ضاغطتان على الفرد والجماعة والتكتلات التي تفسر وفق منطلق ما، قارّ في أغلب الأحيان، وغير عارف بالجواهر. لقد لخص الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مسألة الموقف في جملة غاية في النباهة: "الواقع هو العين التي تراه".

   لا يمكن الحديث عن مادة ثابتة ذات وجه واحد، الواقع نسبي ومتحول من راء إلى آخر. الشيء ذاته يتواتر مع الزمخشري في ''الكشاف''. لقد كان يتعامل مع الكلمات بحذر العالم الذي يهاب الأحكام المنتهية انطلاقا من متكأ عينيّ، وبكلّ ذلك التواضع الذي فرضته عليه مختلف العلامات والسياقات والمضمرات والإحالات، ومعرفته الكبيرة بالشأن المعجمي وسياقات التداول.

   لم يلجأ في شرحه إلى القول الفصل، رغم زاده المعرفي الذي يتجاوز أثاثنا بمئات السنين. ولم يلغ الأسئلة الافتراضية التي يحتمل أن توجهه إلى دلالات أخرى تخص سياق البيان في علاقته بالتبيين. أي أنه سعى، كعالم بأسرار الكلمة ووضعها ومستويات استثمارها، إلى الأخذ بزوايا النظر وحمولاتها
وممكناتها.

   وعندما يعجز واحد من نوع الزمخشري عن تحديد معنى كلمة نراها بسيطة، من منطلقنا الحالي الذي يعامل الأمور باستخفاف، فمعنى ذلك أننا دخلنا في مرحلة من اليقين الذي لا يختلف عن عسكرة العقل والمعجم والبحث والموقف. كان الزمخشري يعتمد على مجموعة كبيرة من المساند لتفسير الكلمات التي تشكل البسملة على سبيل التمثيل، بداية من حرف الجر، إلى اسم الجلالة، إلى الرحمن الرحيم. كان يؤصل ويضبط من أجل الإحاطة بقضايا المعنى.

   أمّا العسكرة العامة، التي تميز بعض جدلنا، فعادة ما تكون ذات علاقة سببية بجهل المراجع والمسارات والأصول والتشكلات، أو عن محاولة تقنينها وفق خيارات عابرة ليست مؤهلة لصناعة معرفة جامعة، ومن ثمّ الإسهام في تكوين موقف يتأسس على اليقين الذي يبني على الخواء، أو عن عجز عن الانفتاح على الممكنات الأخرى التي تثري المعنى، دون أن تغلق عليه المنافذ الأخرى.

   وحده العالم الكبير يدرك النسبية فيتعامل مع المعرفة بتردد، وبتواضع الإنسان الذي سيظل دائما في بداية الطريق إلى العلم. وأمّا المستخفّ بالعقل والثقافة فيأخذ شذرات المعرفة كمعادلات منتهية لا يمكن نقضها لأنها الحقيقة الوحيدة التي يريدها، جاهزة وقابلة للاستهلاك الفوري. الثقافة ليست أجزاء متناثرة لا يربطها رابط، ليست شظايا، وليست يقينيات مدمرة.

   مأساتنا تكمن في هذه المعرفة الإلهية التي تنزل على الأشخاص والجماعات والتكتلات في المقاهي والصالونات، أي في استبدال مرجعية عارفة بمرجعية باهتة، أقلّ زادا من الأولى، أقلّ صفاء وإحاطة بالموضوعات، وأكثر قابلية لتخريب المعرفة والذات معا. إنها تقويض لزاوية نظر أحادية، مؤسسة معرفيا، واستبدالها بزاوية نظر مضادة قد تكون أكثر نمذجة وفتكا بالعقل، وأقلّ شأنا من حيث الحجة. زاوية نظر ضد الممكنات، وضد التباين، وضد البحث، وضد المنطق الجامع.

   لا أتصوّر كتابة أو حكما أو جدلا لا يقبل النقد والتراجع والتنازلات الضرورية التي يفرضها التطور المستمر للمنظومة المعرفية، والفكرية على حدّ سواء. كما لا أتصور ثقافة أو إبداعا يعتبر المساس به بمثابة مساس بالذات الإلهية. ولا يمكن أن تكون هناك ثقافة قابلة للنموّ والتقوية ما لم تستعمل أفعالا من نوع: يبدو، أرى، أتصوّر، أزعم، الظاهر أنّ، أعتقد، كما فعل جدنا الزمخشري وأمثاله، وكما يفعل أكبر الكتّاب والمثقفين في هذه المجرّة التي تستحق تواضعنا بالنظر إلى اتساع علاماتها، وبالنظر إلى محدوديتنا كبشر متحولين وعابرين. الحضارة ليست أنا…وحدي، والباقي مجرد سفاسف لا قيمة لها في الكون. أمّا المعرفة فهي السؤال الخالد، المساءلات التي تنتهي لتبدأ من جديد.

 

جار الله، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري. عالم بالدين والتفسير واللغة والآداب. ولد في زَمَخْشَر في تركمانستان  سنة  1074 م. سافر إلى مكة التي مكث فيها طويلا. توفي في سنة  1143 م في جرجانية عاصمة محافظة خوارزم (أزبكستان)، ويعتبر ''الكشاف'' الذي يتحدث عنه صاحب المقال أحد أبرز مؤلفاته.

 

نشر هذا المقال في موقع جريدة أخبار الوطن، في 27 فيفري 2020:

/النسبية-المضيئة/https://akhbarelwatane.net

وقد أعدنا نشره هنا بموافقة صاحبه  

 

أضف تعليق

كود امني
تحديث